هل يجوز الْجَمع مِن أجل الريح الشديدة ؟
وهل لِمنع الأئمة من الْجَمْع وَجه ؟
الجواب :يجوز الْجَمْع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، مِن أجل وُجود ريح شديدة .
ودليله : عموم حديث ابن عباس رضيَ اللّهُ عنهما : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ
ولَمَّا سُئل ابْن عَبَّاسٍ عن سبب ذلك قَال : أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ . رواه البخاري ومسلم .
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يأمروا المؤذِّن في وقت المطر والريح الشديد والبَرْد أن يقول : الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ .
ففي الصحيحين أنّ ابن عباس رضيَ اللّهُ عنهما أمَر مؤذِّنه أن يقول ذلك في يوم جَمَعة .
وقَالَ نَافِعٌ : أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ، ثُمَّ قَالَ : صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ . فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية للبخاري ومسلم : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ المُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ، يَقُولُ : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ .
قال ابن عبد البر عن هذا الحديث : وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْفِقْهِ : الرُّخْصَةُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ : كُلُّ عُذْرٍ مَانِعٍ ، وَأَمْرٍ مُؤْذٍ . اهـ .
والشَّرْع جاء بالتيسير في وُجود أدنى مَشَقّة .روى الإمام أحمد وأبو داود مِن حديث أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ أَنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَطِيرًا ، قَالَ : فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ: أَنَّ الصَّلاةَ فِي الرِّحَالِ . وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي رواية لأحمد : أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَنَادَى مُنَادِيَهُ : " أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ " .
وفي رواية لأحمد : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ، لَمْ يَبُلَّ أَسْفَلَ نِعَالِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ " . رواه الإمام أحمد ، وصححها الشيخ شعيب الأرنؤوط .
والعلماء يعتبرون الرِّيح الشديدة عُذرا في الْجَمْع بين الصلوات .قال الشيرازي في " المهذب " : وتسقط الجماعة بالعُذر ، وهو أشياء ، فمنها : المطر والوَحل والرِّيح الشديدة في الليلة المظلمة . اهـ .
وقال ابن قدامة : فأما الرِّيح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان : أحدهما يُبيح الجمع . قال الآمدي : وهو أصحّ ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ؛ لأن ذلك عُذر في الجمعة والجماعة . اهـ
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الجمع في المطر بين العشاءين :
هل يجوز مِن البَرْد الشديد ؟ أو الريح الشديدة ؟ أم لا يجوز إلاَّ مِن المطر خاصة ؟فأجاب : الحمد لله رب العالمين . يجوز الجمع بين العشائين للمَطَر والرِّيح الشديدة الباردة والوَحل الشديد ، وهذا أصح قولي العلماء ، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما ، والله أعلم . اهـ .
وقال ابن حجر عن حديث ابن عباس السابق : وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بِظاهِر هذا الحديث ؛ فجوّزوا الجمع في الحضر للحاجة مُطْلَقا لكن بِشَرط أن لا يُتَّخَذ ذلك عادة ، وممن قال به : ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير ، وحكاه الخطابي عن جماعة مِن أصحاب الحديث . اهـ .
وقال شيخنا العثيمين في ذِكر الأعذار التي تُجيز التخلّف عن الجماعة : قوله : "وبِرِيح باردة شديدة في ليلة مُظْلِمة " هذا نوعٌ حادي عشر مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة ، وهو الرِّيحُ ، بشروط :الأول : أن تكون الرِّيحُ باردة ؛ لأنَّ الرِّيحَ السَّاخنةَ ليس فيها أذًى ولا مشقَّة ، والرِّياحُ الباردةُ بالنسبة لنا في هذه المنطقة هي التي تأتي مِن الشمالِ ، لأننا نحن الآن إلى القُطبِ الشّمالي أقربُ منَّا إلى القُطبِ الجنوبي، وفي الجهة الجنوبية مِن الأرض تكون الرياحُ الباردةُ هي التي تأتي مِن الجنوبِ .الثاني : كونها شديدة ؛ لأنَّ الرِّيحَ الخفيفةَ لا مشقَّةَ فيها ولا أذًى ، ولو كانت باردةً ، فإذا كانت الرِّياحُ باردةً وشديدةً فهي عُذرٌ بلا شَكٍّ ؛ لأنَّها تُؤلِم أشدَّ مِن ألم المطرِ .الثالث : أن تكونَ في ليلةٍ مظلمةٍ : وهذا الشرطُ ليس عليه دليلٌ ؛ لأنَّ الحديثَ الذي استدلُّوا به وهو حديثُ ابنِ عُمر " في الليلةِ الباردةِ أو المطيرةِ " ليس فيه اشتراطُ أن تكونَ الليلةُ مظلمةً ، ولأنَّه لا أثرَ للظُّلمةِ أو النور في هذا الأمر ، فالظُّلمةُ لا تزيد مِن برودة الجَوِّ ، والصَّحو لا يزيد مِن سخونةِ الجو في الليل .فالصحيح : أنه إذا وُجِدت ريحٌ باردةٌ شديدةٌ تشُقُّ على النَّاسِ فإنَّه عُذر في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعة ، وهو أَولى مِن العُذرِ للتأذِّي مِن المطر ، ويَعْرِفُ ذلك مَن قَاسَاه ، ومع هذا فإن المشقَّة في البردِ يلحقُها مشقَّةٌ أخرى ، وهي : أنَّ الغالبَ في البردِ كثرة نُزولِ البولِ فيتعب الإِنسانُ منه ، فإذا توضَّأ شَقَّ عليه الوُضُوءُ مع البرودةِ ، ولا سيَّما في الزَّمنِ السَّابقِ فليس هناك سخَّانات تُسخِّنُ الماء ، وأحياناً يكون الماءُ شديدَ البرودةِ جدا ، فلهذا نقول : ما دامت العِلَّةُ هي المشقَّة ، فإن المشقَّة تحصُل في الرِّيح الباردةِ الشديدةِ ، أما الرِّيحُ الخفيفةُ العاديةُ أو الساخنةُ فليس فيها مشقة .تنبيه : قوله : " في ليلة مظلمة " لا يتأتَّى هذا الشَّرط في الجُمُعةِ ، وهو يُؤيّد ما ذكرناه مِن عدم اشتراط الليلةِ المظلمةِ . والله أعلم . اهـ . وأما مَنْع الأئمة منه ؛ فقد يَكون دَرءا للتساهل ومَنْعًا للتهاون في الْجَمْع بِمُجرّد وُجود الرِّيح .
والله تعالى أعلم